• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

قوّة الإسلام الإيجابية في روحه وجوهره/ ج1

د. جيلالي بوبكر

قوّة الإسلام الإيجابية في روحه وجوهره/ ج1

◄الإيجابية منطلق الإسلام ومنتهاه تبرز قوّة الإسلام الإيجابية في روحه وجوهره، في منبعه ومصبّه، وفي منطلقه ومنتهاه ومبتغاه وتثبُت وتتثبّت وتتأكّد مصداقيته، ويظهر منهجه الموصوف بالتمام والكمال، وتتجلّى روحه المتوازنة في الشرائع والشعائر، وفي الأخلاق وفي الآداب وفي سائر المعاملات وسائر أوامره ونواهيه، وفيما ينبني عليه الفكر الإسلامي بدلالاته ومعانيه وإيحاءاته ومناهجه وأوجهه المتعدّدة والمتنوّعة التي تميّزت بالعمق والثراء منذ نشأته وتكوينه وتطوّره وارتباطه بالإسلام حتى الآن، وما تميّز به من مرجعيات علمية وفكرية وعقدية وشعائرية وأخلاقية وأدبية ثبّتها أهل الذكر والراسخون في العلم ضمن سياق مفتوح على التغيير والتجديد لا الاعتزال والانغلاق، ومن غير مُغالاة من جهة، وفي حدود ثوابت تتسع لمتغيرات بعيدة عن الإطلاق من جهة ثانية. قال تعالى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) (الأعراف/ 145). وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 63). وقال تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأعراف/ 171). وقال تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (مريم/ 12). وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات/ 58).

فالقوّة والكمال من ميزات الإسلام وروحه وجوهره، والحقّ والعدل والجمال والمحبّة والاجتهاد في الخير والاهتداء بالشرع الربّاني، كلّها تمثل أصول الخيرية ومرجعيات الإيجابية ومصادرها الفاضلة، تستمدّ منها الأفكار والأعمال والروابط بين وحدات الوجود - الله والإنسان والكون - قوّتها وإيجابياتها وخيراتها. يستمدّ الإسلام - عقيدة وشريعة - قوّته الإيجابية وخيريته من القوّة الإلهية المطلقة في الذات والصفات والأفعال، ويتجسّد ذلك في حياة المسلمين الروحية والمادّية، الفكرية والعملية، فالمرجعيات الإسلامية الفكرية والعقدية والشرعية والأخلاقية وغيرها تفتقر إليها المسيحية الظاهر زيفها واليهودية البيّن عقمها ومكر أصحابها، ففي الإسلام القول الفصل في كلّ ما يتصل بالإنسان في الحياة الدنيا وفي العالم الآخر، وفق منظور غاية في الدقة والصحّة والكفاية والتمام والكمال، وقمّة في الاعتدال والإنصاف والاستقامة والوسطية والعظمة. قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام/ 38). قال تعالى في قوّة الإسلام وكمال منهجه وتمام نعمه على عباده في النظر والعمل، في الدِّين والدنيا، في حياة الفرد والجماعة معا: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) (المائدة/ 3). وقال تعالى في شمول إرادته وعدله ورحمته لكلّ شيء: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف/ 49). وقال تعالى: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف/ 156). وقال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام/ 115). وقال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل/ 76). وقال تعالى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (الشورى/ 15). تتجسّد قوّة التوازن الإسلامي الديني والدنيوي في المبادئ والمنطلقات المتّسمة بالمنعة والمتصفة بديمومة الصلاحية، وبطيب وبنجاعة وفعّالية السُّبل والوسائل والمسارات وسائر الإمكانات التي أتاحها الله لعباده، تكريماً لهم وتفضيلاً على كثير من خلقه، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70).  وقال تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا) (الإسراء/ 21).

وأتاح الله لعباده إمكانية الزّلل والرجوع إليه، فيكون أحنّ عليهم من الوالدة برضيعها. قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر/ 53). ويتحقق بقوّة عجيبة اعتدال الذات الإسلامية روحاً ومادّة في مقابل الاختلال والعفن والفساد في غيرها، ذلك بواسطة الغائية الإسلامية المبني عليها الفعل المقاصدي نظراً وعملاً، وتجسّد ذلك بقوّة في التجربة النموذجية النبويّة الطاهرة الشريفة، لما اكتسبته من العناية الإلهية تكريماً ووصفاً، واقتفى آثارها ولا زال الإنسان كذلك ابتداء من الصحابة حتى الآن وإلى يوم الدِّين، وبان ذلك في اعترافات الكثير من رواد الفكر والعلم من أهل الثقافات والديانات والملل والنّحل الأخرى، حتى أصحاب تلك النّحل التي تعادي الإسلام إلى أبعد الحدود. قال تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح/ 1-4). وقال تعالى يصف خُلق نبيّه محمّد (ص): (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4).

كان للعلماء حضورهم القوي في تجميع وترتيب عناصر المنظومة المقاصدية في بنية بلغت من الإحكام والضبط والدقة والكفاية ما لم تشهده منظومة تشريعية على مرّ التاريخ، وتتصل بالحياة ككلّ ضرورة وحاجة وتحسينا، كما تحفظ الإنسان في نفسه وعقله ودينه ماله وعرضه. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ) (آل عمران/ 7). وقال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) (الزمر/ 9).

والبنية المقاصدية الإسلامية هي ذات تأصيل إسلامي في القرآن الكريم والسُّنة النبويّة الشريفة، وتأسيس علمي اجتهادي، تكوّنت في سياق تاريخي يرتبط بالزمان والمكان، بما في الزمان والمكان من جزئيات وتفصيلات وتغيّرات تناسب هذا السياق التاريخي دون غيره، ففيها ما اخترقت فعّاليته حدود الزمان والمكان، وفيها ما فقد صلاحيته وأصبح جزء من الماضي، الأمر الداعي إلى بذل الوسع باستمرار وبدون توقّف ومن غير انقطاع فيما فيه خير الإنسان في الدِّين والدنيا، وللتأكيد الإسلامي على الزمان والمكان، على المادّي والروحاني، على التوازن في الحياة على المستوى الفردي وعلى المستوى الفئوي وعلى المستوى الاجتماعي وعلى المستوى الإنساني الأُمّمي، قال تعالى في صرف الناس عن الأحادية في الفكر والتصوّر وتجنيبهم التطرّف في السلوك والمُغلاة والبغي من خلال نموذج شعيرة الصلاة: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) (الإسراء/ 110).

والحرص الدءوب على ضرورة مجابهة سائر التطوّرات والتحدّيات والمشكلات التي تعرفها الحياة البشرية بجميع جوانبها مجابهة إيجابية، وضرورة الاضطلاع بمهام وصلاحيات وواجبات وحقوق البناء الحضاري واستئنافه، وحتمية التصدّي لمعيقات الحراك التاريخي صوب الحضارة، ومنع كلّ الأسباب المؤدية إلى التهميش والبطالة والتخلّف والتبعية في سياق الحراك التاريخي الحضاري المطلوب. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة/ 35). وقال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 77). وقال تعالى في ضرورة اتّباع شرعة الإسلام وتعاليمه: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية/ 18).

الإيجابية أو الخيرية - كلّ ما يجلب النفع ويُبعد الضرر في المعتقد والفكر والقول والممارسة العملية - محمدة ومكرمة تقوم عليها المنظومة الأخلاقية الإسلامية والأدبية، تجسّدت هذه الإيجابية الأخلاقية في الأنموذج النبويّ الكريم القويم العظيم، وفي الاقتداء والتأسّي به إلى يوم الدِّين، وهو أنموذج ربّاني اصطفاءً وتكويناً وبنيةً وتأثيراً، فكان الأنموذج قرآناً يمشي على الأرض، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21). وقال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة/ 4).

وكانت النبوة تتفاعل مع الواقع بفعل السماء من خلال مقتضيات التنزيل وأسبابه في الواقع وبواسطة الناسخ والمنسوخ وغيره، فجاءت أحكام القرآن تقبل الواقع تارة وتعترض عليه تارة أخرى، وفق ما تتطلبه الفطرة البشرية وبموجب ما يستلزمه الحال والمقال ويفرضه المنطق السليم من تدرّج ومرحلية وتأنّي في تغيير الأوضاع من السلب إلى الإيجاب، والخروج بالإنسان من ظلام الجهل والكفر والنفاق والرذيلة إلى نور العلم - خير الناس مَن تعلّم العلم وعلّمه، العلم الدِّيني والعلم الدنيوي- والتوحيد والصدق والفضيلة، وإذا اشتدّ عود الإنسانية أخلاقياً وأدبياً بفعل عمليتي التحسين والتقبيح العقليتين من دون الهدي الإلهي فإنّ ذلك جاء مشوباً بالاختلالات والاختلافات والنقائص وكان سبباً لمخاطر كثيرة وأهوال كبيرة، الأمر الذي دعا إلى إتمام مكارم الأخلاق بالوحي الإلهي المطلق في أصوله ومساره ومبتغاه والمُصوّب لفعل العقل في حُكمه على الفعل بين الخير والشر، وإلى التوحيد بين إيجابية الهدي الإلهي المطلقة وهي الأصل والمسار والمُبتغى في كلّ شيء، وخيرية الأخلاقية البشرية العقلية النسبية التي تتأرجح بين المثالي الروحاني العقلاني والمادّي الحسي الواقعي في جوّ استمرار وديمومة صلاحية مكارم الأخلاق في كلّ الأمصار والعصور واستقلاها عن الأعراف والعادات والتقاليد التي تتعدّد وتتنوّع وتتباين بتعدّد وتنوّع وتباين ظروف الناس وأوضاعهم المختلفة، قال تعالى: (لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) (فصلت/ 4). وقال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء/ 35). وقال تعالى: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) (فصلت/ 51).

وتبقى قاعدة جلب الخير ودفع الشرّ هي المحك والمقياس لكلّ فعل أخلاقي إسلامي تستمد منها الروح الإسلامية إيجابيتها الدينية والدنيوية والأخلاقية والأدبية وغيرها. قال تعالى في أهل الخيرية والإيجابية التي هي أصل كلّ حراك إنساني اعتقاداً وفكراً وسلوكاً وواقعاً ملموساً: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران/ 114). وقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مرجعكم جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة/ 48). وقال تعالى في ورثة الخيرية والإيجابية: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر/ 32).

الإسلام في مبدئه وروحه ومساره ومنتهاه براء من الفصل بين القيصرية والإلوهية، وبين الدِّيني والدنيوي، وبين السياسي والأخلاقي، وبين الأرض والسماء، وبين الأعلى والأدنى، وبين الأمام والخلف، وبين الفرد والجماعة، وبين ربّ الناس والناس، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ) (التوبة/ 38). وقال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (إبراهيم/ 3). وقال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (الشورى/ 20). وقال تعالى: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) (فصلت/ 31). وقال تعالى في كون الحكم لله في كلّ أمر من أمور الحياة في الدنيا وفي العالم الآخر: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (هود/ 123). وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (الرعد/ 31). وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) (الطلاق/ 12).►

يتبع...

ارسال التعليق

Top